Smiley face
حالة الطقس      أسواق عالمية

Summarize this content to 2000 words in 6 paragraphs in Arabic

شعراء وناثرون واكبوا حقبة الاستقلال

لم يكن الأدب في مختلف تجلياته ومراحله، حالة هجينة ومنبتة عن الواقع، بل هو نتاج أرضي لا بد له أن ينطلق من مكان وزمان محددين، قبل أن يحلّق في فضائه المتخيل وغير المحدود. وقد يكون في عبارة الكاتب اللبناني يوسف حبشي الأشقر: «لا تنبت جذورٌ في السماء»، التي جعلها عنواناً لإحدى رواياته، ما يؤكد الفكرة القائلة بأن شجرة الإبداع تحتاج لكي تثمر إلى تربة ملائمة وشروط محلية المواصفات. وأياً تكن المتغيرات اللاحقة بمذاهب النقد الأدبي ومدارسه، فإن الثابت الذي لا يتبدل هو أن النتاجات الأدبية العظيمة لا تدين لمواهب أصحابها الفردية فحسب، بل ثمة ما يتصل بالتقاطع الخلاق بين الزمان والمكان، حيث يُفرج الأول عن كنوزه في المنعطفات الملائمة، وحيث للآخر عبقريته الخاصة، كما ذهب الكثير من المفكرين.
وإذا كانت هذه التوطئة بمثابة المدخل الضروري للحديث عن الأدب اللبناني، في مرحلتي الانتداب الفرنسي والاستقلال، فإن ما يجب تأكيده هو أن الحديث عن أي نتاج أدبي محلي في العالم العربي، لا ينبغي أن يُقرأ من زاوية التشرذم الكياني أو الانهمام النرجسي بالذات؛ لأن الانتماء الوطني ليس في حالة تعارض مع الانتماء القومي والإنساني، ولأن لكل بيئة عربية تعبيراتها الأدبية والإبداعية الخاصة، بحيث تسهم الأساليب المتنوعة في إثراء الحديقة الأوسع للغة الضاد.
أمين نخلة
كما يجب التأكيد من جهة أخرى على أن الأدب اللبناني ليس واحداً بالقطع، بل هو يختلف باختلاف الحقب والمراحل، ويتعدد بتعدد الكتّاب والشعراء والأساليب. والأدل على ذلك هو أن النماذج التي قدمها الجيل النهضوي الأول ممثلاً بجبران والريحاني ونعيمة وشعراء المهجر، وصولاً إلى إلياس أبو شبكة، تختلف تمام الاختلاف عن النموذج الجمالي الذي جسَّده شعراء وأدباء الحقبة اللاحقة من أمثال أمين نخلة، والأخطل الصغير، وصلاح لبكي، وفؤاد سليمان وسعيد عقل، الذين عملوا على تظهير صورةٍ للبنان أقرب إلى الأساطير واليوتوبيا الفردوسية منها إلى أي شيء آخر. كما أن هؤلاء الأخيرين يختلفون بالقدر نفسه عن التجارب الحداثية اللاحقة، التي توزعت بين مجلتي «شعر» و«الآداب» على نحو خاص.
ولعل الظروف الصعبة التي عاشها الجيل الأول في ظل الحكم العثماني وما رافقه من تنكيل وبطش وتجويع، واضطرار الكثيرين إلى الهجرة باتجاه الغرب، هي التي تفسر مسحة التشاؤم والتمزق الروحي والتبرم بالواقع التي حكمت نتاج ذلك الجيل، حتى إذا أعلنت سلطة الانتداب الفرنسي قيام دولة لبنان الكبير، وصولاً إلى الاستقلال التام عام 1943، راح شعراء الجيل اللاحق يرسمون صورةً للكيان الوليد، مفعمة بالزهو والتفاؤل والطرب الحسي بالجمال.
على أن شعراء تلك المرحلة وناثريها لم يكتفوا بإسناد كتابتهم إلى واقع البلاد الفعلي، بل راحوا ينقّبون في الأساطير والمرويات القديمة والكتب المقدسة و«أحافير التاريخ»، عن كل ما يضاعف من مساحة الوطن الصغير، ويعمل على تظهير حضوره في العالم، بوصفه وطن المغامرة الإنسانية والثراء الإبداعي. ولم ينسَ هؤلاء الكتّاب بالطبع أن لبنان قد ذُكر عشرات المرات في العهد القديم، وبخاصة في«نشيد الأناشيد» حيث لا يجد العاشق المولّه ما يشبّه به رائحة حبيبته سوى قوله: «رائحة ثيابك كرائحة لبنان»، وما يشبّه به أنفها سوى قوله المماثل: «أنفكِ كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق».
بشارة الخوري
ولا يمكن في الوقت نفسه أن نقرأ ذلك الإفراط في الترصيع الجمالي والنمنمة اللفظية، بمعزل عما أصابه لبنان في تلك الفترة من ازدهار ورخاء، في ظل الطفرة النفطية غير المسبوقة التي شهدتها البلدان المجاورة، وفي ظل مناخ الحرية والانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي رافقه لعقود كثيرة، فضلاً عن طبيعته الخلابة ورحابة أهله؛ الأمر الذي جعل منه مقصد الباحثين عن المتعة والفرح، وقِبلة أنظار الكثيرين في العالمين العربي والغربي.
هكذا بدا الأدب اللبناني في الثلث الثاني من القرن العشرين بمثابة احتفال كرنفالي بالحياة، واستثمار لأكثر ما في اللغة العربية من جماليات البلاغة وأناقة المفردات وفتنة الإيقاع. كما بدت صورة لبنان الزاهية خليطاً من التاريخ المطعّم بالأساطير، والجغرافيا المتوسطية التي تقدم أفضل ما لديها من عروض الجمال، حيث الطبيعة مسرفة في تنوعها، وحيث الكلفة مرفوعة بين الجبال والشواطئ.
وفي هذا العالم الأثيري المفعم بالتفتح، عالم ما قبل تلوث المدن وفساد الأيام، راحت كوكبة من النخب اللبنانية، تبعث إلى المطابع بإصدارات مختلفة المشارب، يؤالف بينها انتصارٌ للّغة الأنيقة و«الأرستقراطية» والبعيدة عن الشوائب. وفي حين كان غليان الحياة مدفوعاً إلى تخومه القصوى، وأصبح الشعر والنثر نوعين من الطرب والانتشاء الطربي بجمال الطبيعة، أو تغنياً بالأنوثة المطلقة، راح الأخطل الصغير، يهتف بامرأته المعشوقة:

الصبا والجمال ملْك يديكِ أيُّ تاجٍ أعزُّ من تاجيكِ
نصبَ الحسنُ عرشه فسألنا مَن تُراها له فدلَّ عليكِ

وإذا كان الأخطل الصغير قد حرص على المواءمة بين البعدين الريفي والمديني في الكتابة، محولاً القصيدة العمودية التقليدية مقطوعاتٍ قصيرة وأغنياتٍ رشيقة، فإن سعيد عقل قد آثر البقاء في المربع الفحولي للكتابة، حيث الشعر رديف الذرى الأكثر ارتفاعاً للبلاغة العربية. وهذه الميزة لم تفارق صاحب « قدموس» في معظم أعماله، كما لو أنه كان يرى في الليونة التعبيرية نوعاً من التأنُّث أو «الخنوثة» التعبيرية التي لم يكن يستسيغها بالمطلق. وإذا استثنينا بعض مقطوعاته الغزلية، فقد ظل الشاعر وفياً لفكرته عن الشعر حتى في قصائد الرثاء، كقوله في رثاء أمين تقي الدين:

سليل الأُلى قيلوا السيوفُ رنتْ لهمْ جبالٌ، وقال الحقُّ من بعضهمْ جندي
على ريف لبنانٍ نموا مثلما نما الضياء، وسال الفجرُ في القمم الجُردِ
أنا اليومَ منهم في قصيدة شاعرٍ لَتَسْكنني كالريح تَلفحُ من بردِ

ولم يكن نثر تلك الثلة من مبدعي الوطن المزهو باستقلاله ليختلف كثيراً عن الشعر، بل كان موازياً له في الصنيع البارع والترصيع البلوري والتأليف المحكم. وهو ما بدا واضحاً في نثر فؤاد سليمان وصلاح لبكي وأمين نخلة، على سبيل المثال لا الحصر. ومع أن سليمان كان ينتمي على المستوى العقائدي إلى أحد الأحزاب القومية، إلا أن أدبه ومعجمه اللغوي كانا يتغذيان من مصادر لبنانية وريفية بحتة، شأنه في ذلك شأن أقرانه الآخرين. ولا تبتعد مناخات سليمان النثرية عن مناخات لبكي ونخلة، من حيث الاستلهام الرومانسي للطبيعة اللبنانية، فكتب في «درب القمر» مخاطباً صديقاً له: «أين لي عشيةٌ في كرْم، تحت قبة عشية خضراء. أغني حتى أجرح حنجرتي. ولكنْ لا عرزال ولا ضباب، لا راعٍ ولا خيمة ولا مطلّ على الدروب. أنا هنا في موكب التائهين، أمشي على براكين تغلي نيرانها تحت رجليّ». ولم يختلف شعر صلاح لبكي ونثره عن مناخات أقرانه من كتاب ذلك الجيل، وهو الذي عمل في «أرجوحة القمر» و«لبنان الشاعر» وغيرهما، على خلق عالم أثيري مصنوع من جماليات التخيل وبهاء التصورات.
وكما هو شأن رفيقيه، حرص أمين على تحميل لغة النثر كل ما تحتاجه من قوة السبك وطاقة الإيحاء. وإذ تداوى أبو نواس بالخمرة، قبله بقرون عدة، جهد نخلة عبر «المفكرة الريفية»، في تحويل الطبيعة منتجعاً للفرح، وتحويل الجمال علاجاً مجانياً، فكتب قائلاً: «إن عصر المداواة بالزهر كان عصراً شهياً؛ إذ كان بالأرج يُداوى، وبالمَلاحة يُطَبَّب، وكان صاحب العلّة من الناس يُقبل على الطبيعة وهي قائمة على ساقها، أو هي طحينٌ في علبة وعجينٌ في حُقّ».

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
© 2025 جلوب تايم لاين. جميع الحقوق محفوظة.